كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ثم يعرض مواقف الذين يؤمنون بهذا القرآن والذين يكفرون به من الأحزاب، وما ينتظر هؤلاء من جزاء في الآخرة. ويعرج على تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم والذين يؤمنون بما معه من الحق؛ فلا يقلقهم شأن المكذبين الكافرين، وهم كثرة الناس في ذلك الحين:
{أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}..
وقد وجد بعض المفسرين إشكالاً في قوله تعالى: {أولئك يؤمنون به} إذا كان المقصود بقوله تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} هو شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا.. فإن {أولئك} تعني جماعة يؤمنون بهذا الوحي وبتلك البينة.. ولا إشكال هناك. فالضمير في قوله تعالى {أولئك يؤمنون به} يعود على {شاهد} وهو القرآن. وكذلك الضمير في قوله تعالى {ومن قبله} فإنه يعود على القرآن كما أسلفنا.. فلا إشكال في أن يقول: {أولئك يؤمنون به} أي بهذا الشاهد أي بهذا القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من آمن بما أنزل إليه، ثم تبعه المؤمنون: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله...} كما جاء في آية البقرة.. والآية هنا تشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدمج معه المؤمنين الذين آمنوا بما آمن به هو وبلغهم إياه.. وهو أمر مألوف في التعبير القرآني، ولا إشكال فيه.
{ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده}..
وهو موعد لا يخلف، والله سبحانه هو الذي قدره ودبره!
{فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}..
وما شك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه، ولا امترى وهو على بينة من ربه ولكن هذا التوجيه الرباني عقب حشد هذه الدلائل والشواهد يشي بما كان يخالج نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضيق وتعب ووحشة من جراء تجمد الدعوة وكثرة المعاندين، تحتاج كلها إلى التسرية عنه بهذا التوجيه والتثبيت. كذلك ما كان يخالج قلوب القلة المسلمة من ضيق وكرب يحتاج إلى برد اليقين يتنزل عليهم من ربهم الرحيم.
وما أحوج طلائع البعث الإسلامي؛ وهي تواجه مثل تلك الحال في كل مكان؛ ويتآزر عليها الصد والإعراض، والسخرية والإستهزاء، والتعذيب والإيذاء؛ والمطاردة بكل صورها المادية والمعنوية؛ وتتضافر عليها كل قوى الجاهلية في الأرض من محلية وعالمية؛ وتسلط عليها أبشع ألوان الحرب وأنكدها؛ ثم تدق الطبول وتنصب الرايات لمن يحاربونها هذه الحرب ومن يطاردونها هذه المطاردة..
ما أحوج هذه الطلائع إلى تدبر هذه الآية بكل فقرة فيها، وبكل إشارة، وبكل لمحة فيها وكل إيماءة! ما أحوجها إلى اليقين الذي يحمله التوكيد الرباني الحكيم:
{فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}..
وما أحوجها إلى أن تجد في نفسها ظلالاً لما كان يجده الرسل الكرام صلوات الله عليهم وسلامه من بينة من ربهم، ومن رحمة لا يخطئونها ولا يشكون فيها لحظة؛ ومن التزام بالمضي في الطريق مهما تكن عقبات الطريق:
{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير}..
إن هذه الطلائع تتصدى لمثل ما كان يتصدى له ذلك الرهط الكريم من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً وتجد من الجاهلية مثلما كانوا يجدون.. لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البشرية كلها بهذا الدين؛ فواجهته بجاهليتها التي صارت إليها بعد الإسلام الذي جاءها به من قبل إبراهيم وإسماعيل ويعقوب والأسباط ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان ويحيى وعيسى، وسائر النبيين!
إنها الجاهلية التي تعترف بوجود الله سبحانه أولا تعترف. ولكنها تقيم للناس أرباباً في الأرض يحكمونهم بغير ما أنزل الله؛ ويشرعون لهم من القيم والتقاليد والأوضاع ما يجعل دينونتهم لهذه الأرباب لا لله.. ثم هي الدعوة الإسلامية للناس كافة أن ينحوا هذه الأرباب الأرضية عن حياتهم وأوضاعهم ومجتمعاتهم وقيمهم وشرائعهم، وأن يعودوا إلى الله وحده يتخذونه رباً لا أرباب معه؛ ويدينون له وحده.
فلا يتبعون إلا شرعه ونهجه، ولا يطيعون إلا أمره ونهيه.. ثم هي بعد هذه وتلك المعركة القاسية بين الشرك والتوحيد، وبين الجاهلية والإسلام. وبين طلائع البعث الإسلامي وهذه الطواغيت في أرجاء الأرض والأصنام!
ومن ثم لابد لهذه الطلائع من أن تجد نفسها وموقفها كله في هذا القرآن في مثل هذا الأوان.. وهذا بعض ما نعنيه حين نقول: إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة. ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها، وإن الذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئاً في هذه القعدة الباردة الساكنة، بعيداً عن المعركة، وبعيداً عن الحركة....
ثم يمضي السياق يواجه الذين يكفرون به؛ ويزعمون أنه مفترى من دون الله، ويكذبون على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك في مشهد من مشاهد القيامة يعرض فيه الذين يفترون على الله الكذب. سواء بقولهم: إن الله لم ينزل هذا الكتاب، أو بادعائهم شركاء لله. أو بدعواهم في الربوبية الأرضية وهي من خصائص الألوهية.. يجمل النص هنا الإشارة لتشمل كل ما يوصف بأنه كذب على الله.
هؤلاء يعرضون في مشهد يوم القيامة للتشهير بهم وفضيحتهم على رؤوس الأشهاد. وفي الجانب الآخر المؤمنون المطمئنون إلى ربهم وما ينتظرهم من نعيم. ويضرب للفريقين مثلاً: الأعمى والأصم والبصير والسميع:
{ومن أظلم ممن افترى على الله كذباأولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة هم كافرون أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون}.
إن افتراء الكذب في ذاته جريمة نكراء، وظلم للحقيقة ولمن يفتري عليه الكذب. فما بال حين يكون هذا الإفتراء على الله؟
{أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم}.
إنه التشهير والتشنيع. بالإشارة: {هؤلاء}.. {هؤلاء الذين كذبوا}.. وعلى من؟ {على ربهم} لا على أحد آخر! إن جو الفضيحة هو الذي يرتسم في هذا المشهد، تعقبها اللعنة المناسبة لشناعة الجريمة:
{ألا لعنة الله على الظالمين}.
يقولها الأشهاد كذلك. والأشهاد هم الملائكة والرسل والمؤمنون، أو هم الناس أجمعون. فهو الخزي والتشهير إذن في ساحة العرض الحاشدة! أو هو قرار الله سبحانه في شأنهم إلى جانب ذلك الخزي والتشهير على رؤوس الأشهاد:
{ألا لعنة الله على الظالمين}..
والظالمون هم المشركون. وهم الذين يفترون الكذب على ربهم ليصدوا عن سبيل الله.
{ويبغونها عوجاً}..
فلا يريدون الإستقامة ولا الخطة المستقيمة، إنما يريدونها عوجاً والتواء وانحرافاً. يريدون الطريق أو يريدون الحياة أو يريدون الأمور.. كلها بمعنى.. {وهم بالآخرة هم كافرون} ويكرر {هم} مرتين للتوكيد وتثبيت الجريمة وإبرازها في مقام التشهير.
والذين يشركون بالله سبحانه وهم الظالمون إنما يريدون الحياة كلها عوجاً حين يعدلون عن استقامة الإسلام. وما تنتج الدينونة لغير الله سبحانه إلا العوج في كل جانب من جوانب النفس، وفي كل جانب من جوانب الحياة.
إن عبودية الناس لغير الله سبحانه تنشئ في نفوسهم الذلة وقد أراد الله أن يقيمها على الكرامة. وتنشئ في الحياة الظلم والبغي وقد أراد الله أن يقيمها على القسط والعدل. وتحول جهود الناس إلى عبث في تأليه الأرباب الأرضية والطبل حولها والزمر، والنفخ فيها دائماً لتكبر حتى تملأ مكان الرب الحقيقي. ولما كانت هذه الأرباب في ذاتها صغيرة هزيلة لا يمكن أن تملأ فراغ الرب الحقيقي، فإن عبادها المساكين يظلون في نصب دائب، وهمٍّ مقعد مقيم ينفخون فيها ليل ونهار، ويسلطون عليها الأضواء والأنظار، ويضربون حولها بالدفوف والمزامير والترانيم والتسابيح، حتى يستحيل الجهد البشري كله من الإنتاج المثمر للحياة إلى هذا الكد البائس النكد وإلى هذا الهم المقعد المقيم.. فهل وراء ذلك عوج وهل وراء ذلك التواء؟!
{أولئك}..
البعداء المبعدون الملعونون.
{لم يكونوا معجزين في الأرض}..
فلم يكن أمرهم معجزاً لله، ولو شاء لأخذهم بالعذاب في الدنيا..
{وما كان لهم من دون الله من أولياء}..
ينصرونهم أو يمنعونهم من الله. إنما تركهم لعذاب الآخرة، ليستوفوا عذاب الدنيا وعذاب الآخرة:
{يضاعف لهم العذاب}..
فقد عاشوا معطلي المدارك مغلقي البصائر؛ كأن لم يكن لهم سمع ولا بصر:
{وما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون}..
{أولئك الذين خسروا أنفسهم}..
وهي أفدح الخسارة، فالذي يخسر نفسه لا يفيد شيئاً مما كسب غيرها وأولئك خسروا أنفسهم فأضاعوها في الدنيا، لم يحسوا بكرامتهم الآدمية التي تتمثل في الإرتفاع عن الدينونة لغير الله من العبيد. كما تتمثل في الإرتفاع عن الحياة الدنيا والتطلع مع المتاع بها إلى ما هو أرقى وأسمى. وذلك حين كفروا بالآخرة، وحين كذبوا على ربهم غير متوقعين لقاءه.
وخسروا أنفسهم في الآخرة بهذا الخزي الذي ينالهم، وبهذا العذاب الذي ينتظرهم..
{وضل عنهم ما كانوا يفترون}..
غاب عنهم فلم يهتد إليهم ولم يجتمع عليهم ما كانوا يفترونه من الكذب على الله. فقد تبدد وذهب وضاع.
{لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون}..
الذين لا تعدل خسارتهم خسارة. وقد أضاعوا أنفسهم دنيا وأخرى.
وفي الجانب الآخر أهل الإيمان والعمل الصالح، المطمئنون إلى ربهم الواثقون به الساكنون إليه لا يشكون ولا يقلقون:
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}..
والإخبات الطمأنينة والإستقرار والثقة والتسليم.. وهي تصور حال المؤمن مع ربه، وركونه إليه واطمئنانه لكل ما يأتي به، وهدوء نفسه وسكون قلبه، وأمنه واستقراره ورضاه:
{مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلاً}..
صورة حسية تتجسم فيها حالة الفريقين. والفريق الأول كالأعمى لا يرى وكالأصم لا يسمع والذي يعطل حواسه وجوارحه عن الغاية الكبرى منها، وهي أن تكون أدوات موصلة للقلب والعقل، ليدرك ويتدبر فكأنما هو محروم من تلك الجوارح والحواس والفريق الثاني كالبصير يرى وكالسميع يسمع، فيهديه بصره وسمعه.
{هل يستويان مثلاً}..
سؤال بعد الصورة المجسمة لا يحتاج إلى إجابة لأنها إجابة مقررة.
{أفلا تذكّرون}.
فالقضية في وضعها هذا لا تحتاج إلى أكثر من التذكر. فهي بديهية لا تقتضي التفكير..
وتلك وظيفة التصوير الذي يغلب في الأسلوب القرآني في التعبير.. أن ينقل القضايا التي تحتاج لجدل فكري إلى بديهيات مقررة لا تحتاج إلى أكثر من توجيه النظر والتذكير..